من الأفضل البقاء بعيداً عن هؤلاء
الذين يحملون خرطوم الحريق
والحفاظ على الأنف نظيفا
ومراقبة هؤلاء بالملابس المدنية
ولا تحتاج إلى خبير الأرصاد
لمعرفة الاتجاه التي تهب لها الرياح
(بوب ديلان )
ليس من السهل حتى للمراقبين "المتطلعين" الوصول إلى المعلومة المؤكدة أو الموقف الثابت بشأن السياسات الفلسطينية لاقتصادية والمالية والتجارية، حتى في خضم الجدل العام الدائر منذ حين في الصحف والورش وأروقة السلطة، الذي يتصاعد بتحدي، ثم يخمد بتواطئي وهذا منذ عام على الأقل. كما أن التأكد من دقة المعلومات المتوفرة هي أساس لا يمكن الاستغناء عنه ، لأي تحليل مفيد لما يدور فعلا، وبالتالي الخروج باستنتاجات واضحة.
إن عملية متابعة المشهد الاقتصادي الفلسطيني بالذات، هي تماماً مثل قراءة الفنجان، إذ تتطلب قدرات تنبؤ ومعرفة في فك التشفير، غير متوفرة للمحلل الاقتصادي الاعتيادي، وإن وجدت، فهي تكمن في الوعي السياسي الفطري للمواطن الفلسطيني العادي. وعند اندلاع أزمه اقتصادية في فلسطين أو في أي مكان آخر، غالباً ما تقوم وسائل الإعلام بنقل صورة جزئية، وذلك من خلال تصريح لمسؤول ما، في الغالب يتناقض مع ما قاله هذا الوزير أو ذاك. وهكذا يضيع إتجاه البوصلة ويتعرض الموضوع الأساسي إلى عملية مد وجزر في إهتمام الجمهور والسياسيين.
إن المشاكل الاقتصادية التي لا تعالج حال ظهورها، تلقي بظلالها بالعادة إلى أن تتم ربما معالجتها، وتتقدم المجتمعات والأمم والأنظمة الاقتصادية، في تجربة تراكمية تقدمية لتفادي الوقوع في فخ ما سماه المفكر كارل ماركس بتكرار التاريخ، "الذي يظهر أول مرة كمأساة وثاني مرة كمهزلة".
التعلم من دروس التاريخ
خير مثال على خطورة عدم قراءة التاريخ جيداً، هي تجربة الأزمة الاقتصادية منذ 2008، التي اعتبر البعض أنه تم الخروج من آثارها قبل أسابيع قليلة عند اجتياز مؤشر "الداو جونز" رقمه القياسي الـ 14000.
تلك الأزمة التي ما زالت تفرز تبعاتها، منذ انطلاقة شراراتها الأولى، في نظام الإقراض العقاري الأمريكي، ثم تحولت إلى أزمه مصرفية، ثم مالية وضريبية أميركية، قبل زحفها إلى أوروبا وإشعال أزمه ديون سيادية وركود عالمي وبطالة ومعاناة اجتماعية متصاعدة في جميع أنحاء أوروبا والبلدان المجاورة، حيث لم تتم إلى يومنا هذا معالجة الأزمة لمالية من جذورها البنيوية، بل دائماً انحصرت في جزئياتها، إلى أن عاد الاقتصاد القبرصي (الصغير جداً)، ليتصدر عناوين الأخبار مع انهيار مصرفي، يدل مرة أخرى على هشاشة النماذج المختلفة "للأمولة" الاقتصادية الفاشلة التي أظهرت خطورتها وقوة تأثيرها، وذلك بدءاً بأيسلندا مروراً بأريزونا ووصولاً إلى نيقوسيا.
صحيح أن المأساة الحاصلة جراء الأزمات العالمية المتتالية، خلال السنوات الـ 5 الماضية لم تنته بعد. لكن السياسة الاقتصادية والمالية والتجارية العالمية بدأت تستدرك فعلاً حجم تلك المأساة، وحتى أوروبا بقيادة المانيا المحافظة، أضحت تميل للسياسات "الكينزية" التوسعية المتبعة في امريكا واليابان وفي العديد من الدول النامية العملاقة، مثل الصين والبرازيل، وتبتعد أوروبا عن سياسات التقشف المدمرة للنمو والانتعاش الاقتصادي.
وفي تراجع لاذع للعولمة وللأمولة في آن واحد، يسمح باستخدام الضوابط والقيود على تدفق رؤوس الأموال، لمنع انهيار الاقتصاد القبرصي تماماً. وهكذا لا زالت هناك إمكانية لأوروبا وللسياسة الاقتصادية في الدول الصناعية، لعمل ما يمكن لتفادي الكارثة الكبرى ولاستخلاص عبر تجربة العولمة الزاحفة خلال العقود الأخيرة، قبل أن يتحول المشهد الأوروبي إلى مهزلة تفكيك الاتحاد.
إن التجربة الاقتصادية الفلسطينية خلال المرحلة الأخيرة، تبدو أكثر فأكثر مأساوية (بالرغم من انتعاش هنا أو هناك)، وذلك منذ الخروج من الانتكاسات الاقتصادية للانتفاضة الثانية والانقسام في عام 2007 واطلاق برنامج بناء "مؤسسات الدولة" في 2009، دون المقدرة على إقامة الدولة المحتضنة لتلك المؤسسات "الجاهزة"، مروراً باحتجاجات شباط و أيلول 2012 الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى صراع السلطة الفلسطينية، مع أزمه مالية خانقة، تهدد بإفلاس حكومي، وسط ركود اقتصادي وتضخم أسعار متصاعد وعدم يقين سياسي إلى ما لانهاية.
البحث المتكرر عن حلول رغم التاريخ
التخبط في البحث عن "حلول" اقتصادية من بين الأدوات القليلة المتوفرة في مربع "أوسلو/باريس" المغلق، هو عنوان الساعة لدى الجميع، مع أنه لم يبلغ ذروته بعد. ونرى ذلك في سياسات السلطة الفلسطينية، مثل محاولة تقليص التوظيف العام، أو فرض اقتطاعات على رواتب فئات ومناطق معينة، ورفع التعرفة الجمركية على أصناف معينة من البضائع المستوردة، التي تعتبر "إغراق" للسوق المحلي ومضرة للمنتج المحلي، وفي السعي وراء تأمين "شبكة الأمان" العربي الموعود، وأخيراً في التفاوض حول تغيير نظام المعابر التجارية والتسهيلات التجارية.
وفي هذه الأثناء تقوم القوة الإسرائيلية القائمة بالاحتلال، بإيقاف عمليات المقاصة المالية مع السلطة تارة أو الخصم منها تارة أخرى، وباستئنافها أو حتى تسليفها في بعض الأحيان، وذلك حسب الظرف السياسي، أو توصيات الشاباك أو الجيش، أو ربما حسب رؤية موظف متوسط، في أية وزارة إسرائيلية إذا اقتضت الحاجة.
كما وأن المجتمع الدولي منقسم بين من لا يريد مشاهدة انهيار السلطة الفلسطينية، وبين من لم يعد يكترث كثيرا. بالمقارنة مع متطلبات وأولويات أهم بالنسبة لها، ثم ..أن هناك أيضا من يعتقد بإمكانية النجاح في إنقاذ الوضع قبل فوات الأوان، وأن يجدد مصداقية تجربة "الحكم الذاتي" الفلسطيني تحت وطأة الاستعمار، وذلك من خلال "إصلاح" التشوهات القائمة في العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل والتي يحددها بروتوكول باريس.
وعلى سبيل المثال، البرنامج الذي اطلقه البنك الدولي مؤخراً بعنوان "أعمال متناهية الصغر"(micro-work) يتم من خلاله توزيع مهام إنتاجية/خدمية على العديد من العاملين بواسطة وسائل الاتصال الرقمي، مع الوعد بالانخراط في "سلاسل القيمة المضافة العالمية" وخلق 55000 وظيفة "جزئية"، موزعة بين مختلف المناطق وبمعدلات أجور منخفضة نسبياً! وكأن 20 سنة من الالتزام الفلسطيني المنضبط بوصفات مؤسسات واشنطن المالية الحاكمة للعقول الاقتصادية في كل مكان، لم تكن كافية لبلوغ "الحل" الاقتصادي، الذي طالما وعدت تقارير البنك الدولي وصندوق النقد بأنه على مرمى حجر، مع شرط اعتماد برنامج إضافي هنا أو قانون هناك من اجل إكمال الوصفة وإشفاء المريض.
ومن جهة أخرى.. فإن جهات أكاديمية أوروبية (صديقة) وإسرائيلية (محبة للسلام) بدأت تستذكر 20 سنة منذ أوسلو، من خلال عقد ندوات وإعداد دراسات علمية وتقارير سياسية، منها ما تصب في تحليل الاطار الاقتصادي لأوسلو واحتمالات إصلاح أوجه الخلل، مع أن تعدد تلك الشوائب في بروتوكول باريس ومدى تأثيرها السلبي على معيشة الشعب وتنمية اقتصاده اصبح موضوع إجماع عام. ومثل هذه الجهود الساذجة أو الخبيثة تعكس اليأس الأوروبي من توقع أي حل سياسي جذري، انسجاماً مع ما يبدو كإصرار إسرائيلي ورعاية أميركية/عربية مشتركة وتقبل فلسطيني رسمي، على إبقاء "الأطر المرجعية" الاقتصادية والسياسية على ما هي عليه منذ 20 سنة، ربما مع تعديلات سطحية وإضافات تسهيلية، لكن دون المسّ بالجوهر.
وهكذا، مع نجاح "صانعي القرار" لمتكرر في تركيز الأنظار على صعيد "الميكرو"، يضيع اتجاه البوصلة وننسى "الماكرو"، أي الصورة الكبرى، ونغض النظر عما تعلمناه جميعاً بشأن استحالة تحقيق التنمية البشرية، أو النمو المستدام، أو الازدهار والمعيشة الكريمة، في ظل احتلال استعماري توسعي.
وهذا بدوره يهدد ليس فقط بالمزيد من المآسي، بل بمهزلة سياسية وطنية يصبح المواطن الفلسطيني المغلوب على أمره ليس اكثر من متفرج لتحركات القادة والدول والقوى، و يُسلب من إرادته الحرة ويتم المتاجرة بحقوقه الاجتماعية والاقتصادية.
من المأساة.... حتى المهزلة؟
إن المأساة الكبرى في كل هذا المشهد، ليست في التخبط السياسي والتردي المستمر بالوضع الاقتصادي فحسب، بل أيضا في المضي في محاولة إيجاد حلول حيث لا توجد حلول .
لا يُحسد وزير المالية على منصبه "والمهمة المستحيلة" الملقاة على عاتقه، كما ليس من المعقول إلقاء اللوم فقط على من أداروا الإرث الاقتصادي والمؤسسي الفلسطيني بعد حقبة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، حتى ولو كانوا احسنوا أكثر من أسلافهم، بالتعامل الإيجابي والوفاء بأجندة مؤسسات واشنطن والدول المانحة وسلطات الاحتلال.
كل ما يهدد فعلاً بمأساة ومهزلة في آن واحد هو الاعتقاد بان تراجع الحكم الحالي عن موازنته المقترحة (مع كل شوائبها) أو عن هذا القانون أو ذاك (مع سوء تنفيذه)، أو حتى عن حكومة أو وزير (مع كل صلاحياتهم المنقوصة حتمياً)، سيمهد لمرحلة جديدة وافضل للحكم الاقتصادي الرشيد- فانتبهوا جيداً من المصطلح القادم قريباً إلى الساحة: "السيادة الاقتصادية".
والمطالبة اليوم بإسقاط الرموز والنخب لاقتصادية، التي ارتبطت سمعتها بإخفاقات المرحلة الأخيرة لأوسلو/باريس بحجة سوء إدارتهم في مواجهة الأزمات، ليس غير منصف فحسب، بل يحيد الأنظار عن المسؤولية القانونية والسياسية الفعلية، على صياغة الإطار الاقتصادي المنظم (باريس) للسياسة الاقتصادية القائمة منذ 20 سنة (واشنطن)، ضمن قيود أمنية/سياسية أوسع (أوسلو). ومن اجتهد في حمايتها والتقيد بها حتى هذا اليوم دون انحراف (ما عدا في سنوات الإولى في الانتفاضة الأخيرة)، هؤلاء هم الذين يجب مسائلتهم اليوم.
بالتالي هذا يعني أنه على م.ت.ف. (وليس على "السلطة الفلسطينية" ولا على "دولة فلسطين")، بصفتها الجهة الموقعة على جميع الاتفاقات مع إسرائيل ومع غير إسرائيل باسم الشعب الفلسطيني، أن تتجه لتبني قرار وطني مدروس، بشأن المستقبل الاقتصادي الفلسطيني في فلسطين، على ضوء تجربة الحكم الفلسطيني تحت الاحتلال، يأخذ في عين الاعتبار الممكن والمرغوب والواجب في آن واحد، ليساهم ربما في عدم تكرار مأساة أوسلو/باريس أو في مهزلة ترميمها و تمديدها.
وإذا لم يكن التخلص من أوسلو/باريس مرغوباً سياسياً أو ممكناً على أرض الواقع، فإن التمرد على تبعاته الاقتصادية يظهر اليوم اكثر حتمية، بفضل حجم وتراكمية الأزمات الاقتصادية المتتالية والمحتملة. وأصبح الوضع لا يطاق، لا من قبل الحكم ولا من قبل الشعب، وأصبحت التهيئة لتغيير جوهري قادم في الوضع القائم منذ 20 سنة أمراً حيوياً للجميع.
كما في شوارع العالم العربي وأوروبا وحتى أميركا لم يعد مقبولاً، إعادة التاريخ الاقتصادي الفاشل ،بدعوى عدم وجود حلول من ضمن رزمة السياسات التقليدية، فإنه في فلسطين أيضاً اصبح ملحا استخلاص العبر، ليس فقط من السنوات الأخيرة، بل خلال حقبة كاملة، من اعتماد سياسات اقتصادية "تحررية" بدل الجهاد من أجل التحرر، وإحلال السياسات الـ"ليبرالية الجديدة" محل سياسات التكافل الوطني والتنمية المقاومة...وكل هذا قد يكون دقيقاً إذا ما أحسنت قراءة الفنجان!